كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم اختلفوا، فقالت فرقة: تجب الصلاة عليه في العمر مرة واحدة، لأن الأمر مطلق لا يقتضي تكرارا، والماهية تحصل بمرة، وهذا محكي عن أبي حنيفة، ومالك، والثوري، والأوزاعي. قال عياض وابن عبد البر: وهو قول جمهور الأمة.
وقالت فرقة: بل تجب في كل صلاة في تشهدها الأخير كما تقدم، وهو قول الشافعي وأحمد في آخر الروايتين عنه، وغيرهما.
وقالت فرقة: الأمر بالصلاة عليه أمر استحباب لا أمر إيجاب، وهذا قول ابن جرير وطائفة، وادعى ابن جرير فيه الإجماع، وهذا على أصله، فإنه إذا رأى الأكثرين على قول، جعله إجماعًا يجب اتباعه، والمقدمتان هنا باطلتان. واحتج الموجبون بحجج:
الحجة الأولى: حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي» صححه الحاكم وحسنه الترمذي.
ورغم أنفه: دعاء عليه وذم له، وتارك المستحب لا يذم ولا يدعى عليه.
الحجة الثانية: حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه صعد المنبر فقال: «آمين، آمين» فذكر الحديث المتقدم في أول الكتاب وقال فيه: «من ذكرت عنده فلم يصل عليك فمات فدخل النار فأبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين، فقلت آمين» رواه ابن حبان في صحيحه.
وقد تقدمت الأحاديث في هذا المعنى من رواية أبي هريرة، وجابر ابن سمرة، وكعب بن عجرة، ومالك بن الحويرث، وأنس بن مالك، وكل منها حجة مستقلة، ولا ريب أن الحديث بتلك الطرق المتعددة تفيد الصحة.
الحجة الثالثة: ما رواه النسائي: عن محمد بن المثنى، عن أبي داود، عن المغيرة بن مسلم، عن أبي إسحاق السبيعي، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من ذكرت عنده فليصل علي، فإنه من صلى علي مرة صلى الله عليه عشرًا.
وهذا إسناد صحيح والأمر ظاهر الوجوب.
الحجة الرابعة: ما رواه ابن حبان في صحيحه: من حديث عبد الله بن علي بن حسين، عن علي بن حسين عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي»، ورواه الحاكم في صحيحه، والنسائي والترمذي. قال ابن حبان: هذا أشبه شيء، روي عن الحسين بن علي، وكان الحسين رضي الله عنه حين قبض النبي صلى الله عليه وسلم ابن سبع سنين إلا أشهرًا، وذلك أنه ولد لليال خلون من شعبان سنة أربع، وابن ست سنين وأشهر، إذ كانت لغته العربية يحفظ الشيء بعد الشيء.
وقد تقدمت الأحاديث في هذا المعنى والكلام عليها.
قال أبو نعيم: حدثنا أحمد بن عبد الله، حدثنا الحارث بن محمد، حدثنا عبيد الله بن عائشة، حدثنا حماد، عن أبي الهلال العنزي، قال: حدثني رجل في مسجد دمشق، عن عوف بن مالك الأشجعي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قعد، أو قعد أبو ذر فذكر حديثًا طويلًا وفيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أبخل الناس من ذكرت عنده، فلم يصل علي.
وقال قاسم بن أصبغ: حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي، حدثنا نعيم بن حماد، حدثنا عبد الله بن المبارك، جرير بن حازم، قال سمعت الحسن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بحسب المؤمن من البخل أن أذكر عنده فلم يصل علي.
وقال سعيد بن منصور: حدثنا هشيم، عن أبي حرة، عن الحسن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كفى به شحًا أن أذكر عنده فلا يصلي علي صلى الله عليه وسلم.
قالوا: فإذا ثبت أنه بخيل فوجه الدلالة به من وجهين:
أحدهما: أن البخل اسم ذم، وتارك المستحب لا يستحق اسم الذم. قال الله تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ} الحديد: 24، فقرن البخل بالاختيال والفخر، والأمر بالبخل، وذم على المجموع، فدل على أن البخل صفة ذم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وأي داء أدوأ من البخل».
الثاني: أن البخيل هو مانع ما وجب عليه، فمن أدى الواجب عليه كله لم يسم بخيلًا، وإنما البخيل مانع ما يستحق عليه إعطاؤه وبذله.
الحجة الخامسة: أن الله سبحانه وتعالى أمر بالصلاة والتسليم عليه، والأمر المطلق للتكرار، ولا يمكن أن يقال: التكرار هو كل وقت، فإن الأوامر المكررة إنما تتكرر في أوقات خاصة، أو عند شروط وأسباب تقتضي تكرارها، وليس وقت أولى من وقت، فتكرر المأمور بتكرار ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أولى لما تقدم من النصوص.
فهنا ثلاث مقدمات.
الأولى أن الصلاة مأمور بها أمرًا مطلقًا، وهذه معلومة.
المقدمة الثانية: أن الأمر المطلق يقتضي التكرار، وهذا مختلف فيه، فنفاه طائفة من الفقهاء والأصوليين وأثبته طائفة، وفرقت طائفة بين الأمر المطلق والمعلق على شرط أو وقت، فأثبتت التكرار في المعلق دون المطلق، والأقوال الثلاثة في مذهب أحمد الشافعي، وغيرهما. ورجحت هذه الطائفة التكرار بأن عامة أوامر الشرع على التكرار، كقوله تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} النساء: الآية 136، {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} البقرة: من الآية 208، {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} المائدة: من الآية 92، {وَاتَّقُوا اللَّهَ} البقرة: من الآية 189، {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} البقرة: من الآية 43، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} آل عمران: 200، وقوله تعالى: {وَخَافُونِ} آل عمران: من الآية 175، {وَاخْشَوْنِي} البقرة: من الآية 150، {وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ}.
النساء: من الآية 146، {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} آل عمران: من الآية 103، {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} النحل: من الآية 91، وقوله تعالى في اليتامى: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} النساء: من الآية 5، وقوله: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} الجمعة: من الآية 9، وقوله:إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم إلى قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} إلى قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} النساء: من الآية 43، وقوله: {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} البقرة: من الآية 153، وقوله: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} الأنعام: الآية 152، وقوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} الأنعام: الآية 153. وذلك في القرآن أكثر من أن يحصر، وإذا كانت أوامر الله ورسوله على التكرار حيث وردت إلا في النادر، علم أن هذا عرف خطاب الله ورسوله للأمة، والأمر وإن لم يكن في لفظه المجرد ما يؤذن بتكرار ولا فور، فلا ريب أنه في عرف خطاب الشارع للتكرار، فلا يحمل كلامه إلا على عرفه والمألوف من خطابه. وإن لم يكن ذلك مفهومًا من أصل الوضع في اللغة وهذا كما قلنا: إن الأمر يقتضي الوجوب، والنهي يقتضي الفساد. فإن هذا معلوم من خطاب الشارع وإن كان لا تعرض لصحة المنهي ولا لفساده في أصل موضوع اللغة، وكذا خطاب الشارع لواحد من الأمة يقتضي معرفة الخاص أن يكون اللفظ متناولًا له، ولأمثاله، وإن كان موضوع اللفظ لغة لا يقتضي ذلك، فإن هذا لغة صاحب الشرع وعرفه في مصادر كلامه وموارده، وهذا معلوم بالاضطرار من دينه قبل أن يعلم صحة القياس واعتباره وشروطه، وهكذا فالفرق بين اقتضاء اللفظ وعدم اقتضائه لغة، وبين اقتضائه في عرف الشارع وعادة خطابه.
المقدمة الثالثة: أنه إذا تكرر المأمور به، فإنه لا يتكرر إلا بسبب أو وقت، وأولى الأسباب المقتضية لتكراره ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم، لإخباره برغم أنف من ذكر عنده فلم يصل عليه، وللإسجال عليه بالبخل وإعطائه اسمه.
قالوا: ومما يؤيد ذلك أن الله سبحانه أمر عباده المؤمنين بالصلاة عليه عقب إخباره لهم بأنه وملائكته يصلون عليه، لم يكن مرة وانقطعت، بل هي صلاة متكررة، ولهذا ذكرها مبينًا بها فضله وشرفه وعلو منزلته عنده، ثم أمر المؤمنين بها، فتكرارها في حقهم أحق وآكد لأجل الأمر.
قالوا: ولأن الله تعالى أكد السلام بالمصدر الذي هو التسليم، وهذا يقتضي المبالغة والزيادة في كميته، وذلك بالتكرار.
قالوا: ولأن لفظ الفعل المأمور به يدل على التكثير وهو صلى وسلم فإن فعل: المشدد، يدل على تكرار الفعل، كقولك: كسر الخبز، وقطع اللحم، وعلم الخير وشدد في كذا، ونحوه.
قالوا: ولأن الأمر بالصلاة عليه في مقابل إحسانه إلى الأمة، وتعليمهم وإرشادهم وهدايتهم، وما حصل لهم ببركته من سعادة الدنيا والآخرة، ومعلوم أن مقابلة مثل هذا النفع العظيم لا يحصل بالصلاة عليه مرة واحدة في العمر، بل لو صلى العبد عليه بعدد أنفاسه لم يكن موفيًا لحقه ولا مؤديًا لنعمته، فجعل ضابط شكر هذه النعمة بالصلاة عليه عند ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم.
قالوا: ولهذا أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بتسميته من لم يصل عليه عند ذكره بخيلًا، لأن من أحسن إلى العبد الإحسان العظيم، وحصل له به هذا الخير الجسيم، ثم يذكر عنده ولا يثني عليه، ولا يبالغ في حمده ومدحه وتمجيده، ويبدي ذلك ويعيده، ويعتذر من التقصير في القيام بشكره وحقه، عده الناس بخيلًا لئيمًا كفورًا، فكيف بمن أدنى إحسانه إلى العبد يزيد على أعظم إحسان المخلوقين بعضهم لبعض، الذي بإحسانه حصل للعبد خير الدنيا والآخرة، ونجا من شر الدنيا والآخرة، الذي لا تتصور القلوب حقيقة نعمته وإحسانه، فضلًا عن أن يقوم بشكره، أليس هذا المنعم المحسن أحق بأن يعظم ويثنى عليه، ويستفرغ الوسع في حمده ومدحه إذا ذكر بين الملأ، فلا أقل من أن يصلى عليه مرة إذا ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم؟.
قالوا: ولهذا دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم برغم أنفه، وهو أن يلصق أنفه بالرغام وهو التراب، لأنه لما ذكر عنده فلم يصل عليه استحق أن يذله الله ويلصق أنفه بالتراب. وقالوا: ولأن الله سبحانه نهى الأمة أن يجعلوا دعاء الرسول بينهم كدعاء بعضهم بعضًا، فلا يسمونه إذا خاطبوه باسمه كما يسمي بعضهم بعضًا، بل يدعونه برسول الله ونبي الله، وهذا من تمام تعزيزه وتوقيره وتعظيمه، فهكذا ينبغي أن يخص باقتران اسمه بالصلاة عليه، ليكون ذلك فرقًا بينه وبين ذكر غيره، كما كان الأمر بدعائه بالرسول والنبي فرقًا بينه وبين خطاب غيره، فلو كان عند ذكره لا تجب الصلاة عليه كان ذكره كذكر غيره في ذلك، هذا على أحد التفسيرين في الآية، وأما على التفسير الآخر وهو أن المعنى لا تجعلوا دعاءه إياكم كدعاء بعضكم بعضًا، فتؤخروا الإجابة بالاعتذار والعلل التي يؤخر بها بعضكم إجابة بعض، ولكن بادروا إليه إذا دعاكم بسرعة الإجابة ومعاجلة الطاعة، حتى لم يجعل اشتغالهم بالصلاة عذرًا لهم في التخلف عن إجابته والمبادرة إلى طاعته، فإذا لم تكن الصلاة التي فيها شغل عذرًا يستباح بها تأخير إجابته فكيف ما دونها من الأسباب والأعذار؟ فعلى هذا يكون المصدر مضافًا إلى الفاعل، وعلى القول الأول يكون مضافًا إلى المفعول.
وقد يقال وهو أحسن من القولين: إن المصدر هنا لم يضف إضافته إلى فاعل ولا مفعول، وإنما أضيف إضافة الأسماء المحضة، ويكون المعنى: لا تجعلوا الدعاء المتعلق بالرسول المضاف إليه كدعاء بعضكم بعضًا، وعلى هذا فيعم الأمرين معًا، ويكون النهي عن دعائهم له باسمه كما يدعو بعضهم بعضًا، وعن تأخير إجابته صلى الله عليه وسلم، وعلى كل تقدير فكما أمر الله سبحانه بأن يميز عن غير هي خطابه ودعائهم إياه، قياما للأمة بما يجب عليهم من تعظيمه وإجلاله، فتمييزه بالصلاة عليه عند ذكر اسمه من تمام هذا المقصود.
قالوا: وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من ذكر عنده فلم يصل عليه خطئ طريق الجنة، هكذا رواه البيهقي، وهو من مراسيل محمد بن الحنفية، وله شواهد قد ذكرناها في أول الكتاب، فلولا أن الصلاة عليه واجبة عند ذكره لم يكن تاركها مخطئًا لطريق الجنة.
قالوا: وأيضًا فمن ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أو ذكر عنده فلم يصل عليه فقد جفاه، ولا يجوز لمسلم جفاؤه صلى الله عليه وسلم.
فالدليل على المقدمة الأولى ما رواه سعيد بن الأعراب: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من الجفاء أن أذكر عند الرجل فلا يصلي علي صلى الله عليه وسلم». ولو تركنا وهذا المرسل وحده لم نحتج به، ولكن له أصول وشواهد قد تقدمت من تسمية تارك الصلاة عليه عند ذكره بخيلًا وشحيحًا، والدعاء عليه بالرغم، وهذا من موجبات جفائه.
والدليل على المقدمة الثانية: أن جفاءه مناف لكمال حبه وتقديم محبته على النفس والأهل والمال، وأنه أولى بالمؤمن من نفسه، فإن العبد لا يؤمن حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه ومن ولده ووالده والناس أجمعين، كما ثبت عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: يا رسول الله! والله لأنت أحب إلى من كل شيء إلا من نفسي. قال: «لا يا عمر! حتى أكون إليك من نفسك. قال: فوالله لأنت الآن أحب إلي من نفسي قال: الآن يا عمر».
وثبت عنه في الصحيح أنه قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» فذكر في هذا الحديث أنواع المحبة الثلاثة، فإن المحبة إما محبة إجلال وتعظيم، كمحبة الوالد، وإما محبة تحنن وود ولطف، كمحبة الولد وإما محبة لأجل الإحسان وصفات الكمال، كمحبة الناس بعضهم بعضًا، ولا يؤمن العبد حتى يكون حب الرسول صلى الله عليه وسلم عنده أشد من هذه المحاب كلها.
ومعلوم أن جفاءه صلى الله عليه وسلم ينافي ذلك.
قالوا: فلما كانت محبته فرضًا، وكانت توابعها من الإجلال والتعظيم والتوقير والطاعة والتقديم على النفس، وإيثاره بنفسه بحيث بقي نفسه بنفسه فرضًا، كانت الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم إذا ذكر من لوازم هذه الأحبية وتمامها. قالوا: وإذا ثبت بهذه الوجوه وغيرها وجوب الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم على من ذكر عنده، فوجوبها على الذاكر نفسه أولى، ونظير هذا أن سامع السجدة إذا أمر بالسجود إما وجوبًا أو استحبابًا، فوجوبها على التالي أولى، والله أعلم.
فصل:
قال نفاة الوجوب: الدليل على قولنا من وجوه:
أحدها: أن من المعلوم الذي لا ريب فيه: أن السلف الصالح الذين هم القدوة لم يكن أحدهم كلما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يقرن الصلاة عليه باسمه، وهذا في خطابهم للنبي صلى الله عليه وسلم أكثر من أن يذكر، فإنهم كانوا يقولون: يا رسول الله، مقتصرين على ذلك، وربما كان يقول أحدهم: صلى الله عليك، وهذا في الأحاديث ظاهر كثيرا، فلو كانت الصلاة عليه واجبة عند ذكره لأنكر عليهم تركها.
الثاني أن الصلاة عليه لو كانت واجبة كلما ذكر لكان هذا من أظهر الواجبات، ولبينه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لأمته بيانًا يقطع العذر وتقوم به الحجة.
الثالث: أنه لا يعرف عن أحد من الصحابة ولا التابعين ولا تابعيهم هذا القول ولا يعرف أحد منهم قال به، وأكثر الفقهاء، بل قد حكي الإجماع على أن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم ليست من فروض الصلاة، وقد نسب القول بوجوبها إلى الشذوذ ومخالفة الإجماع السابق، كما تقدم، فكيف تجب خارج الصلاة.